الأحد، أغسطس 31، 2008

الرئيس محمد نجيب الذى ظلمه تلاميذه وانصفه التاريخ-1

منقزل عن المصرى اليوم
في صباح ١٤ نوفمبر ١٩٥٤ توجه محمد نجيب، رئيس مصر الأسبق، إلي مكتبه بقصر عابدين ولاحظ عدم أداء ضباط البوليس الحربي التحية العسكرية، وعندما نزل من سيارته داخل القصر فوجئ بالصاغ حسين عرفة من البوليس الحربي ومعه ضابطان و١٠ جنود يحملون الرشاشات يحيطون به، فصرخ في وجه حسين عرفة طالباً منه الابتعاد حتي لا يتعرض جنوده للقتال مع جنود الحرس الجمهوري،
فاستجاب له ضباط وجنود البوليس الحربي.وعندما لاحظ نجيب وجود ضابطين من البوليس الحربي يتبعانه أثناء صعوده إلي مكتبه نهرهما فقالا له إن لديهما أوامر بالدخول من الأميرالاي حسن كمال، كبير الياوران،
فاتصل هاتفياً بجمال عبدالناصر ليشرح له ما حدث، فأجابه عبدالناصر بأنه سيرسل عبدالحكيم عامر القائد العام للقوات المسلحة ليعالج الموقف بطريقته. وعندما وصل عبدالحكيم عامر وبصحبته قائد الأسراب طيار حسن إبراهيم وزير شؤون رئاسة الجمهورية،
فقالا له في صوت خافت: «مجلس قيادة الثورة قرر إعفاءكم من منصب رئاسة الجمهورية»
فرد عليهما محمد نجيب في شجاعة: «أنا لا أستقيل الآن، لأنني بذلك سأصبح مسؤولاً أمام التاريخ عن انقطاع صلة السودان بمصر، أما إذا كان الأمر إقالة فمرحباً لأنكم تعفونني من مسؤولية لم يعد يحتملها ضميري».
ووعده عبدالحكيم عامر وأقسم بشرفه العسكري أنه سيقضي أياماً في استراحة زينب الوكيل بالمرج ثم يعود بعدها إلي منزله، ولكن ذلك لم يحدث، فقد ظل منفياً لمدة ٢٩ عاماً،
وغادر نجيب القصر الجمهوري دون تحية عسكرية من جنوده أو إطلاق البروجي لتحيته ودون أن يودعه أحد، وهو الذي لم يحدث مع الملك المخلوع فاروق الذي أطلقت ٢١ طلقة في وداعه بقصر رأس التين قبل أن يغادر البلاد علي ظهر «المحروسة» منفياً إلي إيطاليا.
وعندما وصل نجيب إلي القصر المهجور وجد البوليس الحربي قد سبقه إلي هناك، وقام بحملة سلب ونهب ورفع الأثاث ونزع الستائر وحمل السجاجيد وقطع ثمار البرتقال واليوسفي ليتحول المكان إلي «خرابة».
لاقي محمد نجيب أشد صنوف العذاب والتنكيل به في معتقل المرج، حتي تحول المكان إلي ثكنة عسكرية، فكانت طوابير الصباح تقام فوق غرفة نومه كما كانت تدريبات ضرب النار تقام بجوار النافذة الوحيدة في غرفته.
وفي هذا المنفي لم يكن يزوره أحد ولم يكن مسموحاً له بالخروج، وعندما سمحت له بالزيارة كان ضابط المخابرات يبقي في أثنائها، ولم يكن حرس نجيب يعاملونه علي أنه رئيس سابق أو لواء أو بطل من أبطال حرب ١٩٤٨.
وأثناء العدوان الثلاثي علي مصر سنة ١٩٥٦ سرت شائعة بأن الإنجليز يخططون لإعادته للسلطة بعد هزيمة عبدالناصر، فصدرت أوامر بالتحفظ عليه وتم اقتياده إلي مدينة طما في سوهاج بمنزل لأحد أقارب حسين عرفة، وجري التنكيل به حتي إن أحد الحراس ضربه علي صدره،
كتب الرئيس نجيب عن ذلك في مذكراته: «يومها هانت علي الدنيا.. فقررت أن أضرب عن الطعام». وخلال فترة اعتقاله تعرض لعدة مآس منها قتل ابنه «علي» الذي كان يدرس في ألمانيا، وقيل له إنه قتل علي يد اليهود، لأنه قاد مظاهرة للطلاب العرب ضد اليهود بعد عام ١٩٦٧،
وحزنت أمه حزناً شديداً حتي وافتها المنية سنة ١٩٧١، أما الابن الأكبر فاروق فلم يكمل تعليمه في مجال السياحة والفنادق، وفي ذات يوم استفزه أحد المخبرين الذين كانوا يسيرون خلفه بقوله: «ماذا فعل أبوك للثورة.. كان مجرد خيال مآتة»،
فضربه فاروق وكانت نهايته في ليمان طرة مع المعتقلين السياسيين، فأصيب بالقلب ومات بعدها بخمسة أشهر وهو يشتري الدواء من صيدلية قريبة من المنفي.أما الابن الأصغر يوسف فتخرج في أحد المعاهد اللاسلكية، وعمل في إحدي الشركات ولكنه تشاجر مع أحد أقارب شمس بدران فأقيل من عمله حتي عمل سائقاً في المقاولون العرب وسائق تاكسي بعد الظهر.
وفي عهد الرئيس أنور السادات تحسنت أوضاع اللواء محمد نجيب عندما تم رفع الإقامة الجبرية عنه، وأصبح يتنقل بسهولة، ولكن الأمان الذي تعود عليه محمد نجيب في قصر زينب الوكيل تبدد عندما صدر حكم محكمة جنوب القاهرة في ٢٧ يناير ١٩٨٣ بطرده وعائلته من فيلا المرج وتمكين أصحابها ورثة زينب الوكيل زوجة مصطفي النحاس باشا منها ومن حديقتها التي تبلغ ١٢ فداناً ومفروشاتها وملحقاتها.
وأمر الرئيس مبارك بتخصيص فيلا بمنطقة حدائق القبة لينتقل إليها اللواء محمد نجيب وأسرته، وقال نجيب لبعض الصحف وقتها: «أين أذهب بعد ٣٠ سنة لم أخرج فيها إلي الحياة، ليس لي معارف أو أحد يهتم بي.. أنا أعيش هنا وحدي بعد أن مات اثنان من أولادي ولم يبق غير واحد منهم.. فأين أذهب؟».
وكانت غرفته في فيلا المرج مهملة بها سرير متواضع يكاد يختفي من كثرة الكتب الموضوعة عليه، وكان يقضي معظم أوقاته في هذه الحجرة يداوم علي قراءة الكتب المختلفة في شتي أنواع العلوم، خاصة الطب والفلك والتاريخ،
ويقول محمد نجيب: «هذا ما تبقي لي، فخلال الثلاثين سنة الماضية لم يكن أمامي إلا أن أصلي أو أقرأ القرآن أو أتصفح الكتب المختلفة».
وقضي أيامه الأخيرة متنقلاً بين مستشفي المعادي العسكري أو القبة العسكري للعلاج من أمراض الشيخوخة مثل ضعف الشهية وفقدان القدرة علي الإبصار وهشاشة العظام وغيرها، وبالرغم من ذلك كان يحرص علي الصلاة وسماع الأخبار والأحداث العالمية من جهاز الراديو القديم في غرفته.
وتذكر حفيدته «نجيبة يوسف محمد نجيب» أن جدها كان متأثراًَ جداً وهو يسمع خبر اغتيال الرئيس السادات في الراديو وكاد ينهار باكياً، لأنه كان يشعر دائماً بأنه والد لكل رفاقه من أعضاء مجلس قيادة الثورة، مهما كانت قسوتهم وتعاملهم معه بعنف.
وتضيف نجيبة: «إنه كان قلقاً من بعض الأحداث العربية مثل غزو إسرائيل لبنان في عام ١٩٨٢».وبعد حياة حافلة توفي في ٢٨ أغسطس ١٩٨٤
ويتذكر اللواء حسن سالم اللحظات الأخيرة في حياة خاله محمد نجيب قائلاً: في ذلك اليوم اصطحبت خالاتي إلي المستشفي لزيارة خالي وكان كويس وبيتكلم معانا وفجأة تعب «شوية» ورفع يده إلي السماء ثم أنزلها ببطء، ووجدناه يميل إلي الأرض برقبته قليلاً وعندما حضر الطبيب قال لنا «البقية في حياتكم»،
فاتصلت رئاسة المستشفي بوزارة الدفاع واتصلت أنا بنور فرغل من رئاسة الجمهورية وقلت له «لقد كانت وصية اللواء محمد نجيب أن يدفن في السودان»، وبعدها أخبرني أنه تحدد أن تكون الجنازة عسكرية وأن يدفن الرئيس محمد نجيب في مقابر الشهداء بالغفير «طريق صلاح سالم».
وكانت جنازة عسكرية بالفعل، وصل الجثمان علي عربة مدفع وتقدم الجنازة الرئيس مبارك، وكنت أقف بجواره مع يوسف محمد نجيب، بالإضافة لأعضاء مجلس قيادة الثورة الباقين علي قيد الحياة، وكان موجوداً رئيس مجلس الشعب السوداني ورؤساء أحزاب المعارضة والباقي حرسه،
وفي المساء أقامت الدولة سرادق العزاء أمام مسجد عمر مكرم، وكان أغلب الموجودين من العسكريين.ويستكمل اللواء حسن سالم قائلاً: «الغريب أنه في ذلك اليوم العجيب والرجل لم يبرد دمه في قبره إلا وجاءني خبر طرد أحفاده من فيلا ولي العهد، التي خصصها له الرئيس مبارك بعد طرده من فيلا المرج.

ليست هناك تعليقات: